الأحد، 29 يناير 2012

كارمينا بورانا



(غرفة مغلقة بأحكام، تئن بالداخل وتهمس باسمي، أضع أذني وكفي الصغيرتين علي الباب، "ناوليني المفتاح من الأكره يا حبيبتي، احدفيه من تحت عقب الباب" أبكي بشدة لأناتها، أحاول بجهد جهيد أن أصل للمفتاح المعلق بعيدا، فقامتي التي لا تتعدي الأربعة اشبار تثب وثبات عالية ولكن دون جدوي.)

ذكرى قديمة  تمر علي خاطري كغمضة عين باهتة، فذاكرتي مفرغة تماما من أحداث طفولتي البعيدة لا أذكر سوى بعض التفاصيل البسيطة عن فترتي الاعدادية والثانوية، وكأن ثقابا صغيرا تسلل لعقلي وأفرغه من سنواتي الأولي، أندهش حينما يختلس إخوتي غفلة أمي ويتهامسون بتفاصيل صغيرة عنها، يقولون إنها كانت جميلة وتشبهني حد التطابق، فجأة يعلو صوتي وأصرخ عندما ينعتني أخي الأكبر مغيظا "يا شبهها" عندها تنتبه أمي وتنهره بشدة وعيناها تلمع بدمعة تواريها بغضب، أبي لم يغفر أبدا لها ذهابها لإحضار طعام لي، وتركها لها دون رقابة، فقد اوصدت الباب عليها جيدا، ولم تتوقع أبدا أن قامتي الصغيرة ستصل للمفتاح، لا أعرف حتي الآن كيف وصلت إليه، كل ما أعرفه أنني يومها عتقتها وأسرتني إلى الأبد.
كالعادة أخرج في السادسة صباحا، ذهابي اليومي للجريدة لم يكن يكلفني سوى نصف ساعة نظيفة من المشي الصباحي الممتع، الشتاء فصلي المفضل، ويوم الجمعة يوم فتح، فلا ترى مخلوقا في الشارع، أمتلك كل الطرق، غيرعابئة بتحذير أمي الدائم "بلاش تبرطعي و أنت ماشية.. زي الولاد"، أدخل يديّ في جيبي وأبتسم للهواء البارد، ألمح تجمعًا من الكلاب في آخر الشارع، لا أخشى الكلاب التي تسير على أربعة قوائم، أمر غير عابئة.
كالعادة لا أجد سوى زميلي المناوب ليلا، أستلم منه وأمتلك المكتب وحدي، أحضر كوب شاي بالحليب، وبعض قطع البسكويت، أفطر مع تعليقات قراء الجريدة، التي عادة لا أكترث بقراءة أخبارها، فقط  يكفيني العنوان لأخمن التفاصيل، أستمع بشغف ل(كانتاتا) "Carmina Burana" أضع السمعات علي أذنيٍّ، وأنفصل تماما عن العالم الخارجي ، فقط أنا..، شكاوى لا تنتهي، و"فركة كعب"* أحلامي الضائعة المنتهية فوق مكتب كئيب مثقل بتعليقات جنائزية، عويل وخطوط حمراء لا اجرأ علي تخطيها، وإلا شبح الفصل أو الخصم علي أقل التقديرات، وخيال الشعراء يصبح أسفلتًا ساخنًا يمر عليه واقع غرفتي المغلقة بإحكام ولكن لا أجد بالخارج مفتاحًا ما، أو صغيرة تستطيع الوثب لتحريري.  
_________________________________________


- *عنوان ديواني الأول.
- رابط لسماع كارمينا بورانا http://www.youtube.com/watch?v=QEllLECo4OM

هناك تعليقان (2):

  1. سرد ممتاز يادعاء ، وبجد بجد لغة ممتعة ، نثرك شاعري

    ردحذف
  2. ربنا يخليك يا بيبو أنا فرحانة أنها عجبتك وأن اللغة كانت بالنسبة ليك ممتعة

    ردحذف